الأحد، 6 يناير 2019

برقية تأخرت 11 عامًا تقود إلى "حفرة الفرعون"

برقية تأخرت 11 عامًا تقود إلى "حفرة الفرعون"


 

 في صيف 1922، استدعى اللورد كارنارفون هوارد كارتر للقائه، في عزبته بإنجلترا، وأخبره أنه قرر التخلي عن البحث عن "ملوك مصر"، بسبب الأزمة الاقتصادية في أعقاب الحرب، وقال إنه أنفق 50 ألف جنيه في مواسم حفر جرداء استمرت 15 عاما. قال كارتر إنه ما زال يأمل في العثور على قبر فرعوني سليم. وقال: دعني أبحث موسما واحدا فقط. وإذا لم توافق على التمويل فإنني مستعد لتحمل كل النفقات، ولكن الترخيص باسمك، ويجب أن أستمر به. 
ولأن اللورد كان يعلم أن كارتر يملك المال للتنقيب، وأن متحف المتروبوليتان في نيويورك مستعد لتمويل عمليات البحث عن آثار مصر، فقد وافق على أن يمول عملية البحث والتنقيب؛ عاما واحدا، وبنفس الشروط والقواعد القديمة.


هوارد كارتر واللورد كارنارفون في استراحة كارتر بالأقصر
 
كان اللورد قد تسلم ترخيصا في 15 أبريل عام 1915 لمدة عام، يجدد سنويا بحسب مشيئة المصلحة، وفي عقد الامتياز النصوص التالية:
- الحفر والتنقيب على نفقة اللورد، والعمل يتم بعناية كارتر.
- إبلاغ باشمفتش الوجه القبلي في الأقصر عند اكتشاف مدفن أو بناء آخر.
- المكتشف أول من يدخل المدفن، أو البناء.
- منذ فتح المدفن، وعند ظهور الحاجة، يضع باشمفتش الآثار الحراس عليه.
- مومياوات الملوك والأمراء وكبار الكهنة وتوابيتهم ونووايسهم تبقى ملكا للمتحف المصري، وكذلك التحف ذات الأهمية الكبرى.
- باقي التحف تقسم مناصفة بين مصلحة الآثار وصاحب الترخيص، ولا حق لصاحبه في تعويض أو مكافأة. مكافأة لتعبه، فيحصل على نصف الآثار أو نصف الثمن.
- المدفن السليم وجميع تحفه تؤول لمصلحة الآثار.
- كل مخالفة لهذه الشروط تؤدي، بدون إعلان أو إجراءات، لإلغاء الترخيص.


تيل من مخطط على مكتب كارتر
 
غير أن  دخول بريطانيا الحرب العالمية الأولى، في 4 أغسطس عام 1914، عطل أعمال الحفر، واستقر اللورد في بريطانيا بعد أن حول قصره إلى معسكر لتأهيل الجنود الجرحى.
وعمل كارتر كحامل للحقائب الدبلوماسية بين لندن والقاهرة عن طريق البحر، غير أن العثور على علبة سجائر فضية معه، كانت سيدة في لندن توسلت إليه أن يحملها مع الحقيبة كهدية لابن أخيها في مصر، اعتبر مخالفة للتعليمات أثناء الحرب، وتم فصله، ليعود إلى الأقصر في عام 1917.
وهناك قرر أن يغير الأسلوب، وينقب إلى الأعماق حتى يصل إلى الصخور، وأعد خريطة شاملة للمنطقة، قسمها إلى مساحات كلما انتهى من إحداها انتقل للأخرى. 
وبدأ يحفر في منطقة مثلثة تمتد من قبر رمسيس السادس إلى قبري مرنبتاح ورمسيس الرابع،  وبدأ برأس المثلث عند مدخل قبر رمسيس السادس، فحفر إلى عمق 15 ياردة، حتى وجد أكواخا تشير إلى أنه كان يجري بناء مقبرة.
في بداية موسم الحفر الجديد عام 1918 رأى كارتر لسبب غير مفهوم عدم الاستمرار في التنقيب في ذلك المثلث، وكانت قد بقيت مساحة صغيرة لم يتم الحفر فيها، وقال بعدها إنه خشي أن يسد التراب مقبرة رمسيس السادس.
استمرت أعمال الحفر بعيدا عن هذا الموقع 5 سنوات كاملة، يجدد امتياز التنقيب فيها سنويا، وتم نقل 200 ألف طن من الرمال والحصى دون فائدة.
برقية تجدد الأمل


صورة لبعض مذكرات ومراسلات كارتر
 
كان هربرت وينلوك، الأمين المساعد للقسم المصري في متحف المتروبوليتان، قد طلب القطع التي ظنها المليونير الأمريكي دافيز "كل ما تبقى من توت عنخ آمون" لمتحف المتروبوليتان في نيويورك، في عام 1908، فوافق، ولكن ظلت تلك الآثار مهملة في القسم المصري بالمتحف في نيويورك لمدة 11 عاما.
وبدون أسباب مباشرة أو مقدمات تذكر وينلوك تلك القطع العشر، وبدأ في دراستها، ليجد أنها مليئة بالأقمشة، يحمل بعضها اسم توت عنخ آمون، وأكياس قش، وأكياس نطرون، وقناع شبيه لإنسان من الجص والقماش، وأنواع كثيرة من الأواني، التي كان بعضها مكسورا بطريقة مقصودة، وعظام طيور وحيوانات، وبعض أكاليل الزهور، ومكنستين، وقارورة نبيذ مغلقة ومختومة بخاتم المقابر الملكية، وعليها اسم توت عنخ آمون.
وتوصل وينلوك إلى أن بعض القطع تخص الاحتفالات التقليدية لتحنيط الملك، وبعضها أدوات طعام في الحفل الجنائزي الذي أقيم في نهاية عملية التحنيط داخل المقبرة قبل إغلاقها على مومياء الملك. وصار واضحا لوينلوك أن هذه الأشياء سرقت في وقت قديم من مقبرة توت عنخ آمون الحقيقية، وأخفيت في الحفرة التي عثر دافيز عليها. وأيقن وينلوك أن هذا هو مفتاح الحل للغز الملكي، وأن توت عنخ آمون دفن في وادي الملوك.
قال كارتر: "بدأ اليأس يتسلل إلى نفوسنا، وكنت مستعدا لمغادرة وادي الملوك، وتجربة حظنا في مكان آخر." ولكن في هذا الوقت بالتحديد يبرق وينلوك برأيه إلى كارتر، وكانت هذه أكبر رسالة تشجيع يتلقاها الأخير.
عبر كارتر بحر المانش إلى فرنسا، واستقل السفينة إلى الأسكندرية، ودفع 14 جنيها مقابل تلك الرحلة بالدرجة الثانية، ووصل إلى الأقصر يوم 28 أكتوبر 1922، قبل موسم السياحة بشهرين، وهي المهلة الزمنية التي أتيحت له للحفر في المنطقة الوحيدة التي لم يحفر فيها من قبل، والتي امتنع عن التنقيب فيها مرتين: الأولى عندما كان مع المليونير الأمريكي دافيز، والثانية في العام الأول لعمله مع اللورد كارنارفون.
 
  
 آلة عرض سينمائي في بيت كارتر
 
في أول نوفمبر قرر كارتر أن يعود للتنقيب في نفس المنطقة التي توقف عندها في 1917، عند مدخل قبر رمسيس السادس، ليجد أكواخ العمال الذين اشتركوا في صنع ذلك القبر، وهي الأكواخ التي ربما جعلت الكثيرين يمتنعون عن الحفر بدعوى أنه من المستحيل أن يكون موظفو مدينة الموتى قد سمحوا بإقامة أكواخ للعمال فوق قبر الملك.
في 4 نوفمبر، وصل كارتر، على ظهر حماره، إلى منطقة الحفر، ليخبره رئيس العمال أنهم وجدوا درجة سلم منحوتة وسط الصخور.
في الصباح التالي، 5 نوفمبر، اكتشفت 4 درجات أخرى.
في المساء أصبح عدد السلالم 16 درجة.
أخيرا .. اكتشاف رائع


خراطيش منقولة على مخططات من ورق الكلك
 
لمح كارتر الجزء العلوي لباب من الحجارة عليه خاتم هيروغليفي بحجم اليد، هو خاتم مدينة الموتى في وادي الملوك، فأبرق في اليوم التالي إلى اللورد قائلا: "أخيرا، اكتشاف رائع في الوادي، مقبرة بأختام سليمة. كل شيء مغلق في انتظار وصولك. تهانينا."
وصل اللورد كارنارفون وابنته الليدي إيفلين -20 عاما - وحدهما إلى ميناء الأسكندرية، ومنع المرض زوجته من الحضور. وكان مدير قنا في استقبالهما في محطة الأقصر يوم 23 نوفمبر. واستقل الثلاثة الحمير، 6 أميال، حتى وصلوا إلى وادي الملوك.
ومع استئناف الحفر يوم 26 نوفمبر، ونزولهم 30 قدما أخرى بعد الباب الأول، تدخل ركس إنجلباك، كبير مفتشي الآثار في الوجه القبلي، معلنا أنه تلقى تعليمات من بيير لاكو مدير مصلحة الآثار بأن يحضر دخول المستكشفين إلى المقبرة. 
وواصل العمال الحفر إلى المساء، ليصلوا إلى الباب الثاني، الذي يشبه الأول تماما، غير أنه يحمل ختم توت عنخ آمون.
أرى أشياء مذهلة
بعث كارتر بمذكرة مقتضبة إلى إنجلباك، مفتش الآثار، يبلغه أن كل شيء تم إعداده لدخول المقبرة في الصباح التالي، لكنه لم يرسل المذكرة إلى مقر إقامة المفتش إنجلباك، وإنما أرسلها لمصلحة الآثار، حيث لا يوجد أحد في المساء.
بعد انصراف العمال بقي كارتر واللورد وابنته وأحد المساعدين يدعى كالندر. وأخذ كارتر عصا من الحديد وأخذ يدق بها على الباب. وقال في كتابه: جاءت اللحظة الحاسمة. بيدين ترتعشان صنعت ثقبا صغيرا في الزاوية العليا على يسار الباب. ظلمة وفراغ شاملين في المساحة التي يمكن أن يصل إليها قضيب من الحديد تحسسنا المكان به.
لم تكن الكهرباء وصلت إلى المنطقة، فأشعلت شمعة. قمنا بتطبيق بعض الاختبارات، كإجراء احتياطي ضد احتمال وجود عازات سامة. ووسعنا الثقب قليلا، ودفعت الشمعة،وأطللت برأسي.
لم أر شيئا في البداية، وتسرب هواء ساخن من الحجرة تسبب في ارتعاش لهب الشمعة. لكن عيني تكيفتا بالتدريج مع الضوء، وبدأت تفصيلات الحجرة في الداخل تتضح ببطء: حيوانات غريبة، وتماثيل وذهب. في كل مكان رأيت بريق الذهب. لا بد أنه الخلود تجلى أمام الواقفين قبالة المشهد. شل الذهول لساني. وعندما عجز اللورد كارنارفون عن تحمل الإثارة أكثر من ذلك، سألني في قلق: هل ترى شيئا؟ عجز لساني عن أي رد سوى: نعم، أشياء مذهلة.
تسرب نبأ الكشف إلى الصحافة. نشرت الأهرام في صباح 28 نوفمبر: "اكتشف اللورد كارنارفون، من أغنياء إنجلترا، في أثناء بحثه عن الآثار، في صحراء مقام الملوك على الشاطئ الغربي بالأقصر، حفرة لملك من فراعنة مصر." ولم تهتم الحكومة المصرية بـ"حفرة لفرعون قديم"!


صورة لقناع توت في النسخة المقلدة من مقبرته بجوار بيت كارتر
 
أما صحيفة التايمز البريطانية فقد نشرت في صباح 29 نوفمبر: "كشف اللورد كارنارفون وهوارد كارتر أمام حشد كبير عما يبشر بأن يكون أشهر اكتشاف أثري مصري خلال القرن كله."
ووصف توماس هوفنج سر الكشف بقوله: "بعد سنوات محبطة من العمل العقيم أدى التوصل إلى أروع وأغرب اكتشاف في تاريخ الآثار المصرية كلها إلى فورة حماس. يستطيع المرء أن يتخيل الموقع: حجرة صغيرة مظلمة تضم مئات وآلاف الأشياء، يتكلف كل واحد منها موسما بأكمله (سبعة أشهر كاملة) من الحفر. بيت لكنز من الأشياء الرائعة: الأثاث، والأعمال الفنية. كانت المجموعة في شعور يشبه الذهول. لقد مرت دهور قبل أن يقف إنسان آخر حيث كانوا يقفون. وبدا ما يرونه كأنه انتهى بالأمس فقط."
وكتب شارلز بريستد، ابن عالم المصريات الأمريكي الأشهر جيمس هنري بريستد، في صحيفة شيكاغو ديلي نيوز الأمريكية: "سأظل طول حياتي أتذكر صورة تلك المجموعة الصغيرة من الرجال وهم يقفون منتظرين بعيون لامعة، بينما يرتكن كارتر بيده اليسرى على الركن الأعلى من الرقعة البيضاء. وأزاحها فجأة، لنرى من خلال قضبان الصلب مشهدا رائعا، مشهدا غير معقول، مذهلا، من حكايات الجن. حجرة مسحورة من دار أوبرا، من أحلام مؤلف موسيقي عظيم.
في مواجهتنا، كانت ثلاث أرائك، يتمدد الملك عليها، وكل ما حولها صناديق لحفظ النفائس وعلب المجوهرات، وفازات رخامية، كراسي ومقاعد محلاة بالذهب. أكداس من ثروة الفرعون الذي مات منذ حوالي 3250 سنة. قبل أن تولد كريت. وقبل أن تولد اليونان. وقبل أن ترد روما على خاطر. وقبل أن يبدأ نصف تاريخ الحضارة.
في الضوء المبهر، قبالة حائط من الحجر الجيري الأبيض، كانت ألوان كل ذلك تتألق في وقار. مزيجا من البني والأصفر والأزرق والكهرمان والذهبي والخمري والأسود."
وقالت التايمز في افتتاحيتها في اليوم التالي إن كارتر وزملاءه شاهدوا ما لم تقع عليه عين منذ 32 قرنا-تابوت ملك دفن قبل خمسمائة عام من أشعار هوميروس. عندما كان أفراد شعب إسرائيل عبيدا في مصر.
نزعة الغيرة الشريرة
في مذكرات كارتر، وفي أحاديثه، قال إن المكتشفين الأربعة ظلوا يسلطون الضوء على قطعة أثرية بعد أخرى. وأنهم شاهدوا على الحائط آثارا تدل على وجود باب مغلق، وأنهم انسحبوا بعد ذلك، وعادوا إلى الأقصر، ليكتب رسالة إلى إنجلباك مفتش آثار الوجه القبلي كي يشهد عملية دخول المقبرة. وكان إنجلباك في مهمة بقنا، ولذلك تخلف عن الحضور في اليوم التالي، وحضر بدلا منه موظف صغير في مصلحة الآثار اسمه إبراهيم حبيب أفندي.
ولكن الشكوك ثارت في نفس إنجلباك بسبب هذه الخدعة، وأسرع إلى الأقصر بعد أن تلقى رسالة كارتر، وهبط إلى منطقة الحفر في وادي الملوك. هناك وجد فجوة في الباب الخارجي، واكتشف أن أحد الأختام الموجودة على الركن الأسفل نزع وأعيد مرة أخرى. وسجل إنجلباك ملاحظة بذلك، أبلغها إلى ويجين، السكرتير بدار المندوب السامي، عندما التقاه يوم 7 فبراير 1923 في الأقصر. وسجل ويجين شكوى إنجلباك في مذكرة رسمية تضمنت نص الحديث، وهي محفوظة في مركز الوثائق البريطانية. 
وفسر ويجين عدم اتخاذ إنجلباك لإجراء حاسم بأن الأخير لم ينظر للأمر على أنه اقتحام للمقبرة وسرقة بعض القطع منها. بل ظن أن ما جرى كان مجرد استخفاف شخصي به. وقدر ويجين حقيقة المشكلة بأنها تكمن في "نزعة الغيرة الشريرة" بين الأثريين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق