الطوفان: الحكاية التي يؤمن بها البشر من العرب إلى الإسكيمو
ربما لا توجد رواية أو حكاية أو أسطورة أكثر شيوعاً في الثقافات والحضارات والأديان المختلفة مثل رواية الطوفان.
فعلى سبيل المثال، أحصى الباحث والمؤلف النمساوي هانز شيندلر بيلامي (1901-1982) أكثر من 500 أسطورة عن الطوفان،
في جميع أنحاء العالم، تنوعت بين حكايات دينية وأساطير تاريخية وتراث شعبي.
وكان لمعظم الحضارات القديمة، كما في الصين وبابل وويلز وروسيا والهند وأمريكا وهاواي، والدول الاسكندنافية وسومطرة وبيرو،
نسختها الخاصة من قصة الطوفان الهائل الذي أغرق الأرض.
الطوفان في الأديان الإبراهيمية
يحكي سفر التكوين، أول أسفار العهد القديم،
الذي تمت كتابته بين عامي 1440 و1400 قبل الميلاد، قصة طوفان نوح
كاشفاً حزن الرب عندما رأى مساوئ الناس تطغى على الأرض.
فقرر محو الإنسان والبهائم وطيور السماء عن وجه الأرض.
ولأن نوح كان رجلاً باراً، أمره الرب أن يصنع فلكاً من خشب يحمل على متنها امرأته وبنيه ونساءهم ومن كل حي من الطيور والبهائم والوحوش اثنين،
لينجو نوح ومن معه من طوفان هائل، أرسله الله لإهلاك الأرض الفاسدة.
ولا تختلف قصة النبي نوح
في القصص القرآنية عن قصته في العهد القديم،
وهي من أكثر القصص التي تكرر ذكرها في القرآن الكريم.
غير أن العهد القديم، اهتم بذكر طول السفينة وحجمها والمدة التي صنعت فيها، والمخلوقات التي كانت عليها،
بينما اعتبر الطبري والسيوطي ذلك من الإسرائيليات التي اختلقها اليهود.
الطوفان في الحضارات الشرقية
تعود جذور قصة الطوفان إلى الحضارة السومرية والبابلية،
التي تشابهت قصتهما إلى حد كبير، مع طوفان الكتاب المقدس،
لذا يعتقد الكثير من الباحثين أن الطوفانين السومري والبابلي تركا آثارهما الواضحة على الرواية الدينية، خصوصاً أن الحضارتين سبقتا عصر تدوين الكتاب المقدس.
وتتحدث الرواية السومرية
عن الآلهة التي قررت تدمير الجنس البشري بطوفان هائل،
فحذر الإله إنليل الملك الكاهن زيوسودرا،
وأوحى إليه ببناء سفينة ضخمة، واصطحاب الحيوانات والطيور معه،
وغطت الفيضانات الأرض طوال سبعة أيام وليال.
واكتشفت النسخة السومرية
من الطوفان في نيبور بالعراق،
على يد أول بعثة أمريكية للعراق بين عامي 1889 و1900،
فتم العثور على جزء من لوح طيني،
يعتقد أنه يعود إلى الثلث الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد.
وإذا كان السبب وراء الطوفان، وغضب الآلهة من البشر،
في القصة السومرية لا يزال مجهولاً، بسبب تهشم جزء كبير من اللوح الطيني الأثري،
فإن السبب وراء غضب الآلهة في القصة البابلية معروف، وهو الانفجار السكاني.
وكما تذكر القصة البابلية،
التي دونت في عام 1700 قبل الميلاد
، فقد غضبت الآلهة بسبب الزيادة السكانية الكبيرة للبشر،
فلجأت إلى الطاعون أولاً ثم إلى المجاعة،
ولم يتبق سوى طوفان هائل يقضي على البشر،
لكن الرب "إنكي" حذر "أتراحسيس" الصالح المحب للصلاة وتقديم القرابين للآلهة، فأوحى إليه بضرورة بناء قارب ضخم واصطحاب الكائنات الحية معه للنجاة من دمار الأرض.
ووردت قصة الطوفان أيضاً في ملحمة جلجامش،
وهي ملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري وباللغة الأكادية على 12 لوحاً طينياً اكتشفت في عام 1853 بالعراق،
ويعتقد أنها تعود إلى عام 2100 قبل الميلاد،
وتحكي عن رحلة الملك جلجامش، ملك أوروك،
للبحث عن الخلود، ومقابلته للحكيم أوتنابشتم، الذي سرد عليه قصة الطوفان العظيم، التي تشبه إلى حد كبير الرواية الدينية لطوفان نوح (عليه السلام).
ويتكرر ذكر أوتنابشتم، في أسطورة أشورية حول الطوفان،
تحكي عن اتفاق الآلهة بقيادة الإله إنليل على تطهير الأرض من البشر،
الذين تزايدت أعدادهم وعلا ضجيجهم،
لكن الإله إيا حذر أوت نابشتم خلال نومه، ونصحه ببناء قارب كبير بمساعدة بعض الحرفيين، يتسع لعائلته والحرفيين وبذور كل المخلوقات الحية،
حتى إذا غضب الطوفان وارتفعت المياه لتغمر الجميع، نجا أوتنابشتم ومن معه.
وكمعظم قصص الطوفان،
انتهى الفيضان في الأسطورة الآشورية باستقرار السفينة على قمة أحد الجبال،
وأرسل أوتنابشتم الطيور للاستدلال على وجود يابسة تصلح للحياة.
وتذكر إحدى البرديات المصرية القديمة،
كيف أن الإله أتوم قرر أن يعيد الأرض إلى أصلها الأول،
ويغمرها بالماء، ولن يكون هناك من الناجين سوى أتوم وأوزوريس،
لكن لسوء الحظ، كان جزء البردية الذي يتحدث عن الطوفان تالفاً وغير واضح،
كما يذكر رايموند فولكنر في كتابه
"الكتاب المصري للموتى"
The Egyptian Book of the Dead.
وتحكي إحدى الأساطير الفارسية القديمة
عن الأرض في العصور الأولى،
حين ملأتها المخلوقات الشريرة التي أغواها أهريمان الشرير،
فنزل الملاك تايستار إلى الأرض ثلاث مرات، في شكل رجل وحصان وثور،
وفي كل مرة أمطرت السماء لعشرة أيام وليال،
وقد كانت قطرة المطر الواحدة في حجم وعاء كبير، وأغرق الطوفان مخلوقات الأرض.
أسطورة عالمية
لا يقتصر ذكر الطوفان على الحضارات الشرق أوسطية،
لكن يمكن وصفه بالحدث العالمي لكثرة انتشاره، سواء بتفاصيل تقترب من الحادثة كما وصفتها الكتب المقدسة والآثار السومرية والبابلية أو بتفاصيل مختلفة يطغى عليها الخيال وتأثير البيئة التي ظهرت بها.
مثلاً سمكة هي من حذرت "مانو" من الطوفان المقبل،
ونصحته ببناء السفينة، وذلك في الأسطورة الهندية عن الطوفان.
وكما يذكر محمد خليفة حسن في كتاب "الأسطورة والتاريخ في التراث الشرقي القديم"، فإن في تراث الهند الثقافي ملحمة ورد فيها عن الطوفان ما يشبه إلى حد ما ملاحم بلاد الرافدين.
وفي الأسطورة اليونانية،
قرر الإله زيوس القضاء على الجنس البشري بطوفان ضخم يغمر الأرض،
لكن رجلاً وامرأة لم يشاركا في الجرائم التي ارتكبت على الأرض،
فاختارهما زيوس لتحذيرهما قبل الطوفان، وبنيا صندوقاً يطفو على سطح الماء،
وبعد أن انحسرت المياه بعد مرور 9 أيام،
شعر الزوجان بالوحدة، فأخبرهما هيرميس أن يذهبا إلى وادي صخري،
وأن يلقيا الصخور بأيديهما لتتحول إلى بشر،
وأصبح الرجل الناجي ملكاً على البشر وعلمهم الزراعة.
وفي التراث الشعبي الأفريقي،
تذكر حكاية من الكاميرون
نصيحة عنزة لفتاة تحنو عليها بقرب حدوث الطوفان، ونصيحتها لها بمغادرة القرية هي وشقيقها قبل أن تهلك مع الباقين.
ويتناقل شعب تنزانيا
قصة فيضان الأنهار، ونصيحة الرب لرجلين باستقلال سفينة بصحبة جميع أنواع البذور والحيوانات، لإعادة تعمير الأرض في ما بعد.
ومن روسيا،
أضاف الخيال إلى الموروث الشعبي غواية الشيطان لزوجة نوح
، التي أعدت شراباً مسكراً لزوجها ليبوح بسر صنعه للسفينة،
وبذلك تسلل الشيطان إلى السفينة بمساعدة الزوجة الخائنة
محاولاً إغراق السفينة بمن عليها.
ومن هاواي،
تروي إحدى الحكايا الشعبية أن رجلاً اسمه "نو-يو" صنع زورقاً كبيراً على شكل منزل، وملأه بالحيوانات،
قبل أن يبدأ الطوفان ليدمر العالم الشرير، وينجو الرجل بصحبة عائلته.
وسجل الصينيون
حكايتهم حول الطوفان،
وتضمنت رجلاً وزوجته وثلاثة أبناء ومثلهم من الإناث،
الذين نجوا من طوفان هائل دمر الأرض، وأعادوا تعميرها.
كما سجل سكان أمريكا الشمالية،
على طول شرقها وغربها، حكاياتهم عن الفيضان،
فمثلاً تقول أسطورة "أنيشينابي" في منطقة البحيرات الكبرى،
إن الطوفان جاء للقضاء على غطرسة شعب تلك المنطقة،
ولم ينجُ إلا بطلهم القومي "نانابوزو" بصحبة بعض المخلوقات.
ويشير كتاب
"أساطير الخلق في العالم
" Creation Myths of the World
، إلى أن أسطورة الطوفان لم تترك ثقافة
أو حضارة أو بلداً إلا وتركت آثاراً لها على حكاياها الشعبية،
حتى أنها وصلت إلى شعب الإسكيمو الساكن في أقصى الشمال الجليدي،
إذ تحكي أسطورتهم عن طوفان قديم قضى على البشر،
ولم ينج منه سوى رجلين.
وتضيف الأسطورة بمزيد من الخيال أن الرجلين استخدما قوى السحر الديني
لكي يتحول أحدهما إلى امرأة من أجل أن يتمكنا من الإنجاب وتعمير الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق